قرأ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله خلال حديثه التلفزيونيّ الأخير على مدى ثلاث ساعات ونيّف، وبإسهاب تامّ عناوين المرحلة المقبلة بعد دخول روسيا أرض سوريا برؤية استراتيجيّة وشت بأنّ ما كان قبل الدخول الروسيّ المباشر لن تكتب له الديمومة، أي أنّ أوان إبطاله قد حان. تعمّد نصرالله أن يطيل حديثه، فطول المدّة الزمنيّة يتماهى مع حجم الحقبة التغييريّة المقبلة عليها منطقة الشرق الأوسط برمّتها من البوابة الدمشقيّة ووظيفتها الجديدة. فقد لحظ السيّد بأنّ ثمّة سياقًا تكوينيًّا جديدًا، ستتأسّس عليه دول الإقليم الملتهب، لن يقوم على ما تنبّأ به ديفيد بن غوريون وموشي شاريت وإسحاق ساسون مع غولدا مائير في حقبة الخمسينيّات من القرن المنصرم، بأنّ المنطقة قادمة على تقسيم يريح أمن إسرائيل. فهو ورد في لحظات الاجتياح الأميركيّ للعراق وما نتج عنه من تداعيات وإرهاصات وتراكمات، منها ذلك الربيع العربي المستهلك والممنهج باتجاه تلك الرؤية. لكنّ التمدّد الداعشيّ نحو العمق الأوروبيّ بحجمه اللوجستيّ، ونزف اللاجئين ببعده البشريّ وعبئه الماليّ وثقله الاقتصاديّ، أرعب أوروبا التي تحرّكت في سوريا بوجه نظامها بالتمويل والتأييد لتلك التنظيمات التكفيريّة، ممّا جعل روسيا تنتفض وتدخل أرض الشام مباشرة للحفاظ على أمنها من دمشق ومن ثمّ على النظام من السقوط، وهنا بداءة التغيير.
التوازن، عنوانًا، مضمون الحراك الروسيّ التأسيسيّ أو التكوينيّ. وبوضوح أكثر لن يستقرّ الشرق الأوسط أو تعقل القوى فيه أو تهدأ الطوائف المكوّنة له، إن لم يتمّ القضاء على الإرهاب التكفيريّ يجملته ومن جذوره. المضمون هذا، سطع في الأدبيّات الروسيّة بلا تردّد، على الرغم من التهويل الأميركيّ بتلك الورقة الحارقة بوجه الثنائيّ الروسيّ، الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرغي لافروف، من أجل التنازل في أوكرانيا، ولم يتنازلا. وفي حديث السيّد تمّت الإشارة إلى معنى هذا التهويل وربطه بوجود مقاتلين شيشانيين وكازاخستانيين... أي من دول محيطة لروسيّا. والروس لم يأبهوا لأنّ وجود مقاتلين في التنظيمات الإرهابيّة من تلك الإثنيات يؤكّد الخطر الداهم على قلب موسكو، وهو أمر مخيف بالنسبة للروس.
السيّد رأى ذلك وقرأه وشخّصه ومن ثمّ فسّره، وتوقّف مليًّا عند مسألة الفوعة وكفريّا والزبداني، مؤكّدًا بأنّ التسوية قضت بأن يدخل الجيش السوري الزبداني بعد انسحاب المسلحين منها نحو إدلب على أن يتمّ خروج الأهالي من القريتين المذكورتين إلى حيث يشاؤون. تلك المسألة بواقعها التفصيليّ جزء لن يؤثّر على مسار الواقع الجديد بكليّته، ذلك أنّ الأساس أن تبقى منطقة الزبداني محررة وطريق بيروت دمشق وبصورة تفصيليّة طريق المصنع دمشق آمنة يسلكها الناس بأمان وهدوء، على أن تسري مفاعيل التغييرات الجيو-استراتيجيّة، والجيو-سياسيّة مع دخول روسيّا أرض سوريا على كلّ المواقع السوريّة بالقضاء على الإرهاب من جذوره، والدخول في مراحل الحلّ السياسيّ المتوازن المطلوب لسوريا ومنه للمنطقة بأسرها.
وفي قراءة السيّد التلفزيونيّة، بدت المنطقة بأسرها على مشارف التغيير بفعل هذا الدخول بحالته النوعيّة، من سوريا إلى لبنان فالعراق واليمن. والصورة في معناها التكامليّ، لن تقف عند حدود الحلول الداخليّة، بقدر ما سترنو نحو الحلول الجذريّة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ في مراحل لاحقة. رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتانياهو أدرك في قراءة استباقيّة واستشرافيّة العناوين المتصلة بدخول روسيا أرض الشام وعلى مشارف إسرائيل من الجولان، وفهم أفول التأثير الأميركيّ في إطلاقيّته في هذا المدى بعد الفشل الذريع في تقديم الحلّ، فهرع إلى موسكو في جولة وصفت بالاستطلاعيّة، ولكنّها جولة سلّم الرجل في نهايتها بالدور الروسيّ الجديد. والإسرائيليون مدركون ما يمثّله هذا المدى من اتصال استراتيجيّ بل جيو-استراتيجيّ بروسيا التاريخ والحاضر والمستقبل، سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا. وفي معطى تاريخيّ-واقعيّ، لن تكون فلسطين بمنأى عن هذه التسوية، لكونها تمثّل بمقدّساتها في الوجدان الروسيّ بعدًا روحيًّا وسياحيًّا وإنسانيًّا. والروس وهذا ما لم يقله السيد نصرالله، ولدوا من رحم المشرق بالبعد المسيحانيّ، وحين يطأون أرض سوريا، يعودون إلى مصدر تاريخهم ووجودهم، سوريا وفلسطين جزء من هذا التاريخ والحنين. ولذا سيتمّ ما بين روسيا وإيران استظهار إسلام آخر جديد، هو الإسلام القرآنيّ المتعاطف مع المسيحيّة المشرقيّة، والمتلاقي معها في مدى التوازن، وهذا عينًا ما سيعيد الهويّة العربيّة الأحبّ إلى وجدان السيّد وقلبه بهاءها السّاطع بعد انقشاع الفضاء وجلاء الغيوم وانتصاب الحلول.
في المساحة اللبنانيّة قرأ الأمين العام لـ"حزب الله" وبصورة متأنيّة عناوين المرحلة الجديدة اللصيقة بالتطوّرات الجذريّة في سوريا. لم يقرأها من زاوية الوفاء والإخلاص لمؤسّس "التيار الوطني الحر" العماد ميشال عون فقط. بل قرأها من الزاوية الواقعيّة، أي من زاوية اتجاه الرياح وتأثيراتها في الحيّز اللبنانيّ. لم ينف أحد ما تمّ تسريبه مؤخّرًا، حول رسالة بعثها الرئيس بشار الأسد للعماد ميشال عون قال له فيها أصمد حتّى آخر تشرين الأوّل. وبغضّ النظر عن مضمون تلك الرسالة، إلاّ أنّ التوصيف الموضوع أمام الناس من قبل السيد نصرالله وكثيرين واقعيّ في الشكل والمضمون. ذلك أنّ معظم القرءات السياسيّة أجمعت على أنّ الحلّ الداخليّ لن يكون بمنأى عن الحراك التأسيسيّ في سوريا بالتاكيد على آفاق المشاركة السياسيّة وضمان ديمومتها. وتستعيد بعض المصادر عنوانًا جوهريًّا تمّ التداول به ما بين طهران وموسكو وواشنطن، وقد بلّغت دمشق به بواسطة وزير خارجيّتها وليد المعلم وهو ضرورة كتابة دستور جديد كأساس للحل السياسيّ في سوريا، وهو ما ستلجه سوريا بعد الحسم الميدانيّ لتأكيد مفاعيل الشراكة الكاملة بآفاقها السياسيّة، أفيكون لبنان بمنأى عن ذلك؟ ما عناه السيد في حديثه الأخير بأنّ لبنان بتفاصيل الصراع السياسيّ المأزوم فيه سيكون جزءًا من هذه الرؤية التاسيسيّة. ويدرك كثيرون بأنّ النظام السياسيّ اللبنانيّ بجوهره الطائفيّ يكوّنه قانون تجري على اساسه الانتخابات النيابية، ينبثق منها مجلس نيابيّ قائم على جوهر المناصفة بالتدقيق اللبنانيّ، والمناصفة توطّد الشراكة الكاملة في معناها السياسيّ-الطوائفيّ، أي في جذرها الميثاقيّ. من هنا جاء تركيز نصرالله في حديثه الطويل، على ضرورة الشروع بإيجاد قانون ينطلق من النسبيّة، وقد تمّ التوافق عليها في معظم المشاريع المقدّمة سواء مما سمي قانون فؤاد بطرس وصولاً إلى اللقاء الأرثوذكسي، بدوائر يتفق عليها، وهذا المجلس بطاقمه الجديد ينتخب رئيسًا للجمهوريّة. وبقراءة السيّد النسبيّة جوهر الشراكة السياسيّة المتين.
ويتلازم مفهوم الرئيس القويّ عنده في المحاكاة السياسيّة وفي المضمون الواقعيّ، بمسألة قانون الانتخابات النيابيّة. والرئيس القويّ يبقى إكليلها ورأسها في ترسيم المرحلة المقبلة، وعند الحزب إن ميشال عون تنطبق عليه تلك المواصفات حيث الرجل غير تابع لأحد، يناقش الأمور والتفاصيل السياسيّة بشخصيّته المستقلة والفاعلة. وفي الختام تعتبر مصادر مواكبة بأنّ حديث السيد الطويل مفصليّ في ظلّ تلك المرحلة التاسيسيّة لشرق أوسط جديد لبنان أحد محطاته الأساسيّة. وتنصح بضرورة الاتفاق الآن على الحلّ السياسيّ في إطاره الداخليّ، وقد حانت الفرصة السياسيّة الآن وليس غدًا. فغدًا يوم آخر. حتّى لا يخضع من يكابرون، لأنهم سيدخلون التسوية وهم صاغرون، أو يهاجرون. منطق الاتفاق أبهى وأشرف من منطق الخضوع.